إختلف الوضع وتغيرت الحال مما عرفنا حاجه إسمها الإغتراب ...

الكاتب// نورالدين سيداحمد ابونوباتيا

كانت أياماً جميله . حبيبنا صفوت الحاج
إختلف الوضع وتغيرت الحال
مما عرفنا حاجه إسمها الإغتراب ...

كان عمنا محمد محجوب يقول لي أنا ( شيوئي ) كيداً في ناس علي كرار وعلي محجوب . ولكن رغم إختلافهم كانوا يحبون بعضهم البعض .

لكن الشيخ الإمام (علي كرار) شكّل وجداننا وعطر إحساسنا وملأ صوته المبحوح بالقرآن والدعاء جنبات أضلاعنا الصغيرة صلاحاً وخيراً عميماً بالرغم من شقاوة الطفوله . ولا يزال صوته المنحوت على جدران طبلاتنا يشنف آذاننا وخاصة في صلاة التراويح . ( قدوس صبوح رب الملائكة والروح ) . ولا زلت أحفظ خطبته ودعاءه المطبوع على ذاكرتي تماماً مثل فاتحة الكتاب ( اللهم أختم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا وتوفنا وأنت راض عنا بعد عمر طويل في مرضاتك)

بعد سنوات طويله عدت الى القرية وفي صلاة الجمعة إفتقدت الشيخ . وإفتقدت اول ما إفتقدت صوته وبشته وكيف أنه كان يصعد المنبر بعصاته التي كان يهش بها على أصحابه وبعض صحابته . كان وهو يصعد المنبر يوزع القفشات يمنة ويسره . كنت أنا وبعض أصدقائي في المدرسة الإبتدائيه مصدر إزعاج كبير له وللمصلين . ونشوش على الخطبة التي سمعناها مئات المرات وحفظناها على ظهر قلب . في المقابل كان يطلق علي لقب( نور الطين ) بدلاً عن نور الدين . كان من عادته أن يسخط عليك حتى لتظن أنه لن يغفر لك حتى يفنى ولكن في اليوم التالي ينسى وكأن شيئاً لم يحدث . كنا مصدر إزعاج له ولجموع المصلين خاصة في صلوات الأعياد وصلاة الجمعه حتى وقعت أغرب حكايه غيرت مجرى علاقتي به رأساً على عقب مما جعلتني أؤمن لفترة طويله بأن الشيخ علي كرار هو نبي الله الخضر .

ذات يوم خميس وكنت طالباً بالمدرسة الشمالية الوسطى بالقسم الداخلي . كانت الإبتسامة لا تفارقنا . حياتنا أكل ولعب ولهو ونوم يريحنا من عناء التعب واللعب . رؤوسنا تملأها راحة البال والطمأنينه والسلام لا هماً هما ولا غماً نما إلا ربما هم صغير بواجب في جتا الجيب وظتاه من معلم الرياضيات أو ربما Dictation من كتاب الريدر في اللغة الإنجليزيه . لا واتساب ندمنه ولا فيسبوك يؤرقنا . ولا يوتيوب يقض مضجعنا . كانت حياتنا منسوجة بخيوط البساطة وببراءة الطفوله .
الآن عرفت أن مشكلة الإنسان الأولى تكمن في كيف يحتفظ ببراءته عندما يكبر .

كنا نحن طلاب الداخليات أبناء الحكومة الهمام ننتظر الخميس الأخضر حيث نقضي الخميس والجمعة بالقرية العزيزة .
كان الخميس يوماً مميزاً حيث ننتظر بص فرح معروف بكل فرح وكثير من المعروف .

في ذلك الخميس ذهبت الى القريه . وكانت تنتظرني المفاجأة الذبحه . نزلت في حيرن كوم أمام منزل نجم الدين . ثم قطعت المسافة في أقل من دقيقة واحده حيث دائماً في انتظاري أخواتي الأربعه خارج المنزل تحت شجرة النيمة الكبيرة الوارفه . ولدهشتي لم أجد ( ماكنه) أصغرهن وآخر العنقود ( قبل أن تشرع والدتي في مشروع انجاب المرحلة الثانيه من الذكور ) .
كان على محياهن كل حزن الدنيا . لحظتها عرفت أن مكروهاً ألم بها . شيء ما أقعدها عن الخروج . كانت ماكنه قصيرة القامة مقارنة بطولي . كانت تضع حجراً كبيرا تحت النيمة وفي كل خميس كانت تطلب من إخواتي مساعدتها في إخراج الحجر لتصعد عليه وتسلم علي محشورة في حضني .

إنحنيت وبكل القلق والتوتر والتشتت سلمت على أخواتي الثلاثه ... ورميت نفسي وكأني أمارس رياضة الوثبه الثلاثيه .. قفزة واحدة حيث وجدت نفسي بجوار سريرها . وتأكدت ظنوني .. مشلولة وعاجزة عن المشي والحركه .

أجهشت بالبكاء وأبكيت الناس حتى كدت أن أكون حرضاً وأكون من الهالكين .
كانت ماكنه أختي صبية جميلة مثل إلهة الهندوس( راما كريشنان ) .
سميت ( ماكنه) تيمناً بِ (ماكنه حمد ) التي لم ترضع فروحي لبناً خالصاً فحسب ، بل شعراً جميلاً أيضاً . ثم شب فروحي عن الطوق وقال مفتخراً بها .....

أنا المدد الما عندو حد
أمي أم اليتامى ماكنه بت حمد
أخو اخوات آمنه السند
وحرم مكة وحليمه السعد

وجدتها شبه مشلولة عاجزة عن الحركة والناس حولها في جدال صاخب . بعضهم يوصي بالذهاب بها الى المستشفى . وآخرون الى شيوخ الرقية . وفي النهاية قرروا أخذها الى الشيخ ( علي كرار) .
وتوكل أبي على الله . وعلى حمارته ركب ويردف أمامه البنت التي تقطعت لها نياط القلوب .
في ذلك اليوم فقط عرفت لماذا يكن أبي هذا الحب الجم لحمارته الرمادية تلك . كانت الحمارة تنفذ تعليمات أبي بدقة متناهيه . ربما أكثر منا نحن أبناؤه . وفي المقابل كان أبي يعتبره واحداً من أفراد الأسرة . وبحساب البندر والبيدر كانت الحمارة مصدر دخل بينما نحن أبناؤه مصارف إنفاق . كانت الحمارة تعمل وكنا نأكل مما توفره لنا الحمارة من عرق جبينها لدرجة أنني كنت أشعر ببعض الغيرة منها وأحياناً كثيرة أشعر بأنها تخرج لي لسانها سخرية وتهكماً .
تااااابع الجزء التاني

عند وصولنا الى بيت الشيخ العامر رحبوا بنا وأبدوا حزنهم . حمل أبي أختي ماكنه ودخل في ديوان الشيخ . وأنتظرت خارج الديوان مع عدد كبير من الذين جاءوا لمواساتنا . جلسنا نتابع الوضع عن كثب رافعين أكفنا راجين اللطف في قضائه .
وبعد ساعة خرجت ماكنه مسرعة مثل طلق المخاض ورمت بنفسها في أحضان أمي العزيزة .
كانت المفاجأة الكبرى .
بل سيدة المفاجاءآت .

جاء الناس من كل حدب وصوب . وعم الخبر القرى والحضر والنجوع والكنابي . لقاطة القطن ورواعي الغنم .
وحيران المدرسه .

في طريق العودة كانت ماكنه في مقدمة الركب الميمون تعدو فرحة مثل أحدى بطلات المضمار الأثيوبيات

عند دخولنا البيت علت الزغاريد ووزعت عصائر الكدكدي و التانك .

كان ذلك حديث المدينة لطالبي المزاج الحلال في قهوة عبدو وفوال قناوي وحلواني سيف وكلمه واحده . حديث الطلاب في المدارس وبنات الثانوية في مدرسة دهب عبد الجابر .
وإختلفت الناس حول ما حدث . نسجت الروايات والحكايات والشمارات والكرامات والجن والإنس والملائكة واولياء الله الصالحين .

منهم من قال أن الحسن الكبير عندما تيقن بدنو أجله نادى إبنه (علي كرار) فشق صدره وأخرج مضغة قائلاً ( هذه حظ الشيطان منك ) ثم غسل القلب وأعاده الى مكانه . ومن يومها بوركت يداه ، يجبر الكسر ويبرئ الأكمه والأبرص . وصار طبيب المعلولين .

ومنهم من قال إن (علي كرار الحسن) يملك الجن ويسخرهم في الخير ومصلحة الناس .
ومنهم المتشائمون الذين يزعمون أن الشيخ يأتمر بأمر جني مسلم .

وآخرون قالوا هذه كرامات يكرم الله بها من يشاء .

وقالت أمي :-
شيخ (علي كرار) طيب من طيب . وله كرامات ورثها عن أبيه . وكان الحسن الكبير يصلي في مكه صلاة الفجر ثم الظهر ثم يطير الى المدينة ويصلي بجوار حبيبه العصر والمغرب والعشاء ثم يعود الى أمبكول ويبيت بها ثم يدرك الفجر في مكه .

آخرون قالوا ... هو ولي من أولياء الله الصالحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يدخل الجنة من أي باب يشاء

أما أنا ...
بدأت أراقب الرجل حتى إن وجدته نازلاً من أملاكه
(مزرعته) بالقرب من الصهريج وقفت بجك الماء في ظل بيت عمي جلال فرح أناوله الماء البارد وأشرب من باقي كوبه . وأعيش على دعوته حتى ضحى اليوم التالي . وإن غاب يوماً أصبحت هائماً كالمجذوب كأنما يتخبطني الشيطان من المس .
وأصبح ( نور الطين) لقباً من الماضي وبدأ يناديني ( جنا بشاريه ) كناية عن وجود قربى وصلة دم ورضاً بما أقوم به .

لكن ................
عندما كبرت عرفت أنه واحد من الذين عناهم الرسول في حديثه ( إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء ) .

وعندما كبرت أكثر وعيت حديث رسول الله حيث جاء الى المقبرة وقال ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . وددت لو أني رأيت إخواني . قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله . قال أنتم أصحابي . إخواني يأتون في آخر الزمان يأتون غراً محجلين من الوضوء ) .

كان هذا هو ( علي كرار الحسن ) ما كان والده يصلي في مكه . ولم يشق له صدر ولا قلب . ولم يبني مسجداً ولم يحج إلا مرة واحده . ولم يعتكف في العشرة الأواخر في مسجد القرية .......
لكنه أتى الله بقلب سليم .

نورااادين ابو نوباتيا